أي: هو الغني بذاته عن جميع مخلوقاته، وهو واسع الجود والكرم، فكل الخلق مفتقرون إليه، يسألونه جميع حوائجهم، بحالهم ومقالهم، ولا يستغنون عنه طرفة عين ولا أقل من ذلك، وهو تعالى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ يغني فقيرا، ويجبر كسيرا، ويعطي قوما، ويمنع آخرين، ويميت ويحيي، ويرفع ويخفض، لا يشغله شأن عن شأن، ولا تغلطه المسائل، ولا يبرمه إلحاح الملحين، ولا طول مسألة السائلين، فسبحان الكريم الوهاب، الذي عمت مواهبه أهل الأرض والسماوات، وعم لطفه جميع الخلق في كل الآنات واللحظات، وتعالى الذي لا يمنعه من الإعطاء معصية العاصين، ولا استغناء الفقراء الجاهلين به وبكرمه، وهذه الشئون التي أخبر أنه تعالى كل يوم هو في شأن، هي تقاديره وتدابيره التي قدرها في الأزل وقضاها، لا يزال تعالى يمضيها وينفذها في أوقاتها التي اقتضته حكمته، وهي أحكامه الدينية التي هي الأمر والنهي، والقدرية التي يجريها على عباده مدة مقامهم في هذه الدار، حتى إذا تمت [هذه] الخليقة وأفناهم الله تعالى وأراد تعالى أن ينفذ فيهم أحكام الجزاء، ويريهم من عدله وفضله وكثرة إحسانه، ما به يعرفونه ويوحدونه، نقل المكلفين من دار الابتلاء والامتحان إلى دار الحيوان.
تفسير البغوي : مضمون الآية 29 من سورة الرحمن
( يسأله من في السماوات والأرض ) من ملك وإنس وجن .
وقال قتادة : لا يستغني عنه أهل السماء والأرض .
قال ابن عباس : فأهل السماوات يسألونه المغفرة وأهل الأرض يسألونه الرحمة [ والرزق والتوبة والمغفرة ] وقال مقاتل : يسأله أهل الأرض الرزق والمغفرة وتسأله الملائكة أيضا لهم الرزق والمغفرة .
( كل يوم هو في شأن ) قال مقاتل : نزلت في اليهود حين قالوا إن الله لا يقضي يوم السبت شيئا .
قال المفسرون : من شأنه أن يحيي ويميت ، ويرزق ، ويعز قوما ، ويذل قوما ، ويشفي مريضا ، ويفك عانيا ويفرج مكروبا ، ويجيب داعيا ، ويعطي سائلا ويغفر ذنبا إلى ما لا يحصى من أفعاله وأحداثه في خلقه ما يشاء .
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن عبدوس المزكي - إملاء - أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن يحيى البزاز ، أخبرنا يحيى بن الربيع المكي ، أخبرنا سفيان بن عيينة ، أخبرنا أبو حمزة الثمالي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : إن مما خلق الله - عز وجل - لوحا من درة بيضاء ، دفتاه ياقوتة حمراء ، قلمه نور وكتابه نور ، ينظر الله - عز وجل - فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة ، يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء فذلك قوله : " كل يوم هو في شأن " .
قال سفيان بن عيينة : الدهر كله عند الله يومان أحدهما مدة أيام الدنيا والآخر يوم القيامة ، فالشأن الذي هو فيه اليوم الذي هو مدة الدنيا : الإخبار بالأمر والنهي والإحياء والإماتة ، والإعطاء والمنع ، وشأن يوم القيامة : الجزاء والحساب ، والثواب والعقاب .
وقيل : شأنه جل ذكره أنه يخرج في كل يوم وليلة ثلاثة عساكر ، عسكرا من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ، وعسكرا من الأرحام إلى الدنيا ، وعسكرا من الدنيا إلى القبور ، ثم يرتحلون جميعا إلى الله - عز وجل - .
قال الحسين بن الفضل : هو سوق المقادير إلى المواقيت .
وقال أبو سليمان الداراني في هذه الآية : كل يوم له إلى العبيد بر جديد .
التفسير الوسيط : ويستفاد من هذه الآية
وقوله- تعالى-: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ بيان لغناه المطلق عن غيره، واحتياج غيره إليه.
والمراد باليوم هنا: مطلق الوقت مهما قل زمنه، والشأن: الأمر العظيم، والحدث الهام.
.
أى: أنه- سبحانه- يسأله من في السموات والأرض، سؤال المحتاج إلى رزقه، وفضله، وستره، وعافيته.
.
وهو- عز وجل- في كل وقت من الأوقات، وفي كل لحظة من اللحظات، في شأن عظيم.
وأمر جليل، حيث يحدث ما يحدث من أحوال في هذا الكون، فيحيى ويميت، ويعز ويذل، ويغنى ويفقر، ويشفى ويمرض.
.
دون أن يشغله شأن عن شأن.
.
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ أى: كل وقت من الأوقات، هو في شأن من الشئون، التي من جملتها إعطاء ما سألوا.
فإنه- تعالى- لا يزال ينشئ أشخاصا، ويفنى آخرين، ويأتى بأحوال، ويذهب بأحوال، حسبما تقتضيه إرادته المبنية على الحكم البالغة.
حول صحة الأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لو عثرت بغلة في طريق العراق لسألني الله عنها
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
أما بعد
من مشهور الأقوال المأثورة، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أنه قال:
" لو عثرت بغلة في العراق ، لسألني الله – أو قال: لخفت أن يسألني الله - عنها : لِمَ لَمْ تصلح لها الطريق يا عمر " ؟!.
لم نقف عليه بإسناد قط ، لا صحيح ولا ضعيف !!
وقد روي عنه بلفظ آخر معناه قريب من هذا المعنى .
وهذا اللفظ هو :" لو أن جملا أو قال شاة أو قال حملا ، هلك بشط الفرات ، لخشيت أن يسألني الله عنه ".
وهذا الأثر بهذا اللفظ روي من عدة طرق ، لا يخلو إسناد كل واحد منها من ضعف ، إلا أنها تتقوى بمجموع الطرق ، وبيان ذلك كما يلي :
الطريق الأول :
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (34486) ، والخلال في "السنة" (396) ، من طريق أسامة بن زيد ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، قَالَ : " كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ يَسَعَوْنَ بِسَعْدٍ إِلَى عُمَرَ ، فَقَالَ عُمَرُ:" لأُبْدِلَنَّكُمْ حَتَّى تَرْضَوْنَ ، وَلَوْ هَلَكَ حَمَلٌ مِنْ وَلَدِ الضَّأْنِ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ ، ضَائِعًا ؛ لَخَشِيتُ أَنْ يَسْأَلَنِي اللَّهُ عَنْهُ " .
وهذا الطريق فيه علتان :
الأولى : فيه أسامة بن زيد الليثي ، وقد تُكلم فيه لأجل سوء حفظه ، ولذا قال ابن حجر في "التقريب" (317) :" صدوق يهم ". انتهى ، ولكن يقبل حديثه في المتابعات والشواهد ، ولذا قال الذهبي في "تاريخ الإسلام" (4/23) :" وَقَدْ يَرتَقِي حَدِيْثُه إِلَى رُتْبَةِ الحَسَنِ ". انتهى
الثانية : الانقطاع بين حميد بن عبد الرحمن وعمر بن الخطاب رضي الله عنه .
قال العلائي في "جامع التحصيل" (145) :" روى عن عمر رضي الله عنه، وكأنه مرسل ". انتهى. وقال الذهبي في "تاريخ الإسلام" (2/1085) :" قيل: إنه أدرك عمر، والصحيح أَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْهُ " انتهى.
الطريق الثاني :
أخرجه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/53) ، من طريق عَبْد اللهِ بْن الْحَسَنِ الْحَرَّانِيُّ ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللهِ الْبَابْلُتِّيُّ ، ثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ ، حَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ:" لَوْ مَاتَتْ شَاةٌ عَلَى شَطِّ الْفُرَاتِ ضَائِعَةً ، لَظَنَنْتُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى سَائِلِي عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".
وهذا الطريق فيه ثلاث علل :
الأولى : فيه : يحيى بن عبد الله البابلتي ، فيه ضعف ، قال فيه الذهبي في "الكاشف" (6197) :" لين ". انتهى ، وقال ابن حجر في "التقريب" (7585) :" ضعيف " انتهى .
الثانية : فيه : داود بن علي بن عبد الله بن عباس ، فيه ضعف أيضا ، إلا أنه لا يترك حديثه ، ولذا قال ابن عدي في "الكامل" (3/560) :" وعندي: أنه لا بأس برواياته ، عن أبيه ، عَن جَدِّهِ ؛ فان عامة ما يرويه ، عن أبيه عَن جَدِّهِ ". انتهى.
الثالثة : الانقطاع بين داود بن علي وعمر بن الخطاب ، فإنه لم يدركه .
الطريق الثالث :
أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (3/350)، من طريق مُحَمَّد بْن عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عُمَرَ قَالَ:" لَوْ مَاتَ جَمَلٌ ضَيَاعًا عَلَى شَطِّ الْفُرَاتِ لَخَشِيتُ أَنْ يَسْأَلَنِي اللَّهُ عَنْهُ ".
وفي إسناده الواقدي محمد بن عمر، وهو متروك .
الطريق الرابع :
أخرجه مسدد في "مسنده" كما في "المطالب العالية" (3988) ، ومن طريق ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (44/355) ، من طريق إسماعيل بن إبراهيم ، قال ثنا يونس ، عن الحسن ، قال : قال عمر :" لو مات جمل في عملي ضياعا ، خشيت أن يسألني الله عنه ".
ورجاله ثقات ، إلا أن فيه انقطاعا ، حيث إن الحسن البصري ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب ، فروايته عنه منقطعة .
الطريق الخامس :
أخرجه الطبري في "تاريخه" (4/202) ، من طريق ابن وهب ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ النَّاسَ ، فَقَالَ:" وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ ، لَوْ أَنَّ جَمَلا هَلَكَ ضَيَاعًا بِشَطِّ الْفُرَاتِ ، خَشِيتُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهُ عَنْهُ آلَ الْخَطَّابِ ".
وهذا فيه : عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، ضعيف سيء الحفظ ، إلا أنه كذلك لم يترك .
قال ابن عدي في "الكامل" (5/448) :" وَعَبد الرحمن بن زيد بن أسلم : له أحاديث حسان ، وقد روى عنه كما ذكرت : يُونُس بن عُبَيد وسفيان بن عُيَينة ، حديثين . وروى معتمر عن آخر عنه ، وَهو ممن احتمله الناس ، وصدقه بعضهم ، وَهو ممن يكتب حديثه ". انتهى.فمما سبق :
يتبين أن جميع طرق هذا الأثر لا تخلو من ضعف ، إلا أنها تقوي بعضها بعضا ، فالذي يظهر أن الأثر، باللفظ الثاني: حسن بمجموع طرقه إن شاء الله .
وأما باللفظ المشهور، المتداول بين الناس: فلم نقف له على أصل.
والله أعلم .
.